ملاحظة حول قرار محكمة جنايات القاهرة في قضية "موقعة الجمل"
حكمت محكمة جنايات القاهرة ببراءة ٢٤ متهماً في قضية "موقعة الجمل". "موقعة الجمل" (٢-٣ فبراير ٢٠١١) تشير إلى الهجوم على متظاهري التحرير من قبل أشخاص مستخدمين من قبل النظام السابق بلباس مدني، والذي أدى إلى مصرع ١٤ متظاهراً. استخدم المهاجمون جمالاً و أحصنة في محاولة لدهس المتظاهرين، بالإضافة إلى كوكتيل المولوتوف واحياناً بعض الأسلحة النارية. المتهمون ال٢٤ كلهم من أقطاب النظام السابق. تلعب "موقعة الجمل" في مصر بعد ثورة ٢٥ يناير دوراً محورياً في الخيال السياسي الجمعي و خاصة في تمثيل أي فعل جماهيري وتحديد علاقتنا به . فهي في الواقع أول ظهور إعلامي في التحرير لما يسمى البلطجية كفاعل سياسي سيدخل بعد الثورة أكثر من مرّة على الساحة العامة ( رمزياً و بالمعنى الحرفي) دائماً من اجل تخويف أو اسكات بعض النشطاء نهائياً، تمييع المشهد السياسي للمراقب الوطني والدولي، و بشكل عام كأسلوب من أساليب الاستبداد في ترهيب و قمع حراك ثوري جماهيري. و منذ موقعة الجمل أصبح "البلطجي" المقابل السياسي والأخلاقي لثوار التحرير. الخطاب السياسي السائد الذي يدور حول حراك الجماهير يفترض التمييز بين "البلطجي" و "الثائر" كبنية أساسية تحدد موقفنا الأخلاقي والسياسي من أي حراك شعبي. لم يكن استخدام بلطجية كأدوات للقمع في "موقعة الجمل" أسلوباً جديداً على النظام البائد. و كذلك فإن وصف المتظاهرين بأنهم بلطجية كان دائما موجود في خطاب الاستبداد. و لكن موقعة الجمل أعطت البلطجية في المخيلة السياسية للمصريين نقطة علام تاريخية. في "موقعة الجمل" تحول البلطجي من فئة موجودة فقط كأسطورة من أساطير الاستبداد إلى أشخاص حقيقيين يمكن ملاحظة أفعالهم و نتائجها على التلفزيون بنقل حي و مباشر. "موقعة الجمل" هي التي سمحت في الواقع لتهمة البلطجية أن تستمر إلى ما بعد الثورة و سقوط مبارك الشخص دون نظامه.
لن أدخل أكثر من ذلك في بنية الخطاب السياسي بعد ٢٥ يناير حول تمثيل حراك الجماهير في الشارع، سوى لإعادة التأكيد على مركزية التمييز بين "البلطجية" و "ثوار التحرير" وعلى الأهمية الرمزية لموقعة الجمل في ترسيخ هذا التمييز. بالنسبة للكثيرين كان هذا التمييز مقبولاً بعد الثورة لأنه في الواقع يعتمد على منظومة قيمية أفرزتها الثورة والتي تبدأ من رفض النظام القديم وسياساته وممارساته. التمييز بين "البلطجي" و "الثائر" كان له مضمونه القيمي بالنسبة للثوار والمراقب المنحاز والذي سهل تداوله وانتشاره بعد الثورة لأننا أيضاً كنا نفترض أن "البلطجية" هم أدوات نظام مبارك. وأصبح التمييز بين البلطجي والثائر أحد ساحات الصراع السياسي الرمزي مع السلطة ليس فقط على المستوى الوطني بل أيضا في صراعات سياسية محلية في المعمل والجامعة. و من هنا فعندما تحكم محكمة جنايات القاهرة ببراءة ال٢٤ متهماً من أقطاب النظام القديم وعدم مسؤوليتهم عن القتل والشروع بالقتل لمتظاهري التحرير، ثوار ٢٥ يناير الحقيقيين، في "موقعة الجمل"، فان أثر ذلك سيتجاوز بشكل نوعي موضوع حق الشهيد وتحقيق العدالة بمحاسبة المجرم. حكم محكمة جنايات القاهرة في قضية "موقعة الجمل" سيسبب شرخاً بنيوياً في الخطاب السياسي و كيفية تمثيل الفعل الجماهيري فيه. الشعور بخيبة الأمل، الشعور بفقدان الأمل، الغضب، الشعور بالظلم المجحف المستوطن في صلب المجتمع، و حتى الشعور بعدم التوازن وفقدان نقاط علام في منظومة قيمنا السياسية كلها محتملة واستجابة إنسانية للعنف الرمزي الذي يمثله هذا القرار. بشكل أبسط الحكم ببراءة ال ٢٤ متهم من الممكن أن يمغمغ التمييز بين "البلطجي" و "الثائر": كيف نصف ما حصل في مظاهرات ١٢ أكتوبر و ما هو الخط الفاصل بين البلطجي و الثائر و من يتحكم في هذا التصنيف؟ الغموض في منظومة القيم التي تسمح لنا أن نميز بين الثوري والفاشي، بين "الفلول" و سياسي له وجهة نظر مختلفة، سيبعد السياسة عن فئات كثيرة من المجتمع و يحد من قدرة النخب السياسية الفاعلة على تعبئة فئات من الشعب غير منظمة في حركات سياسية أو حزبية لأي عمل سياسي.
السؤال الذي لا بد طرحه في هذه الظروف من دون تأخير هو كيف وصلنا الى هنا؟ من السهل جداً ان ندخل في متاهة فساد القضاء، و ارتباطه بفلول النظام البائد. من السهل أيضا حتى أن ندخل في تفسيرات نحاول فيها وبكل جد و مثابرة أن نثبت أن قرار محكمة الجنايات هو تعبير عن الإرادة السياسية لــ "الدولة العميقة"، وأن نستغل هذه اللحظة الأليمة لكي نجدد العزم على إحداث تغيير جذري في مؤسسات الحكم، و على أن نواجه الدولة العميقة بثورة عميقة. و في ذات الوقت من الصعب على أي منا أن يؤكد أو ينفي هذه التفسيرات فهي بالفعل غير مستبعدة. و من الصعب أيضاً أن نختلف مع أي فعل سياسي من اجل تغيير جذري في مؤسسات المجتمع والحكم.
ولكنني كقانوني لم أجد قرار محكمة جنايات القاهرة في هذه القضية مفاجئاً أو حتى مخيباً للآمال . ما زلت أُقيّم هذا الحكم سياسياً كصفعة في وجه كل من وقف أمام الطغيان لعقود طويلة، و أخلاقياً على انه ازدراء معلل بلغة القانون لحقوق الشهداء و أحزان عائلاتهم. لم أجد الحكم مفاجئاً ومخيبا للآمال لأنني كقانوني منحاز سياسياً لليسار لا أرى من القانون إلا حدوده و ما يمكن توقعه بأحسن الظروف من محاكم الجنايات عندما تنظر في قضايا من نوع قضية "موقعة الجمل". بمعنى أن النتيجة، من منظور قانوني يساري، ستكون مخيبة للآمال و مدانة سياسياً و مرفوضة أخلاقياً حتى لو كان حكم محكمة الجنايات الإدانة لرموز النظام السابق. و من نفس المنظور فان استجابة السلطة التنفيذية لمصر بعد الثورة بإقالة النائب العام هي عرض لنفس المرض و مخيبة للآمال لأننا لا بد أن نتوقع من سلطة منتخبة بعد ثورة أكثر من ذلك بكثير.
القوانين الجزائية الوضعية، منذ الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر، تفترض أن المسؤولية الجنائية ١) فردية؛ و ٢) موضوعها أفعال مادية موصوفة مسبقاً بالتحديد في قوانين العقوبات. قضية "موقعةالجمل" و كذلك القضايا الجنائية المتعلقة بمجزرة ماسبيرو، قتل المتظاهرين في ثورة ٢٥ يناير و كذلك قضايا الفساد ضد رموز النظام السابق، والقضاياالجنائية المتعلقة بمجزرة بور سعيد، لها طبيعة خاصة من ناحيتن. أولها إزدواجية الموضوع، فهي من جهة إجراءات قضائية تنتهي بتحديد مسؤولية أفراد عن أفعال مادية محددة. و هي من جهة أخرى إطار رمزي لمحاسبة طبقة سياسية كاملة عن جرائم من المستحيل حصرها أو حتى تصنيفها. ثانيها هو علاقة الكناية بين الموضوعين. والكناية بلاغة هي تعبير ينصرف فيه قصد قائله ليس إلى المعنى الحرفي لكلماته بل إلى معنى آخر ملازم ومسكوت عنه. أي أنه في سياق حديثنا هذا، جوهر القيمة الرمزية لهذه القضايا ليس المسؤولية الفردية عن أفعال مادية محددة، بل مدى قدرة هذه القضايا على أن تكون كناية مقبولة سياسياً لمحاسبة طبقة سياسية كاملة على عقود من القهر والاستبداد. في مثل هذه القضايا سيكون أي حكم قانوني قاصر ومخيب للآمال في أحسن الظروف. مسؤولية الفرد عن أعمال محددة لايمكن أن تختصر مسؤولية نظام عن عقود من الطغيان. ليس للغة القانون والمخيلة القضائية أي أدوات معرفية أو مفردات كافية تسمح لهما بأن ينتجان أحكاماً قادرة على أن تربط مسؤولية فرد عن أفعال مادية محددة والمسؤولية السياسية لنظام و رجاله. بل على العكس من ذلك فقد كانت مباشرة مثل هذه القضايا الجنائية، في أغلب الأحيان، محاولة لنخب سياسية انتقالية للهروب من استحقاقات العدالة والمسؤولية السياسية والأسئلة الصعبة التي لا بد لكل منّا ان يواجهها، إلى المسؤولية القانونية حيث يمكن التعايش مع وهم أننا نستطيع أن نتحكم بمسار الأمور بعد أن نفتح ”صندوق باندورا“.
التناقضات التي تفرزها هذه الإشكالية أكبر بكثير من أن يمكن تجاوزها بإجراءات تجميلية. القضاء الجنائي يفترض كشرط لعدالة المحاكمة أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته. والثقة العامة بعدالة المحاكمة لا بد أن تعني من ضمن ما تعنيه قبولنا أن أحد النتائج المحتملة للمحاكمة هو براءة المتهم. و هذا ما هو غير محقق في مصر بعد الثورة. لا بد لمسؤولية أقطاب نظام مبارك المباشرة عن انتهاكات دمرت حياة مئات الأولوف من المصريين أن تكون نقطة البداية في أي من هذه المحاكمات و ليست إحدى استنتاجاتها المحتملة. فإذا لم يكن كذلك فكأن الثورة لم تكن. و بالتالي فإن الإصرار على التعامل مع النظام البائد عن طريق المسائلة الجنائية يفترض ضمنا أننا نطلب من القضاء أن يكون غير عادلاً و أن تكون المحاكمة شكلية وأن تكون الضمانات الإجرائية التي تكفل للمتهم عدالة الإجراءات في نهاية الأمر مسرحية. هذه الصورية هي أسلوب النظام البائد في التعامل مع حكم القانون و ليس، كما هو سائد في المجال العام اليوم، تطبيق فعلي لشعارات سيادة القانون.
هذا لا يعني أن المساءلة الجنائية لمن اقترف جرائم بحق متظاهر أو معتقل أمر هامشي. بل على العكس من ذلك تماماً. المشكلة هي عندما نصور المسائلة الجنائية على أنها معادلة للمسائلة الشعبية السياسية وتحقيق للعدالة. السياسة في مصر بعد الثورة لا يمكن أن تتعامل مع العدالة على أنها علاقة بين جلاد و ضحيته. كل مصري طرف في هذه العلاقة. و ليس من المقبول أن يتعامل السياسيون في مصر مع مسألة العدالة كموضوع تقني على هامش السياسة يمكن حله بتبديل مناصب بينما تسير الآلة السياسية قدما بمشاريع اقتصادية وانتخابات و دستور. العدالة في مصر بعد الثورة، بل في جميع ثورات ما يسمى بالربيع العربي، هي المسألة التي يجب أن تبدأ منها كل السياسة.